ارتاح محمد بن عبدالله بن طاهر يوماً للندامة , وقد حضر ابن طالوت , وكان وزيره وأخص الناس به وأحضرهم لخلواته , فأقبل عليه , وقال : لا بد لنا اليوم من ثالث تطيب لنا به المعاشرة وتلذ بمنادمته المؤانسة ؛ فمن ترى أن يكون ؟ وأعفنا أن يكون شرير الأخلاق , أو دنس الأعراق , أو ظاهر الإملاق
قال ابن طالوت : فأعملت الفكرة , وقلت : أيها الأمير ؛ خطر ببالي رجل ليس علينا من مجالسته مؤونة , وقد برئ من إبرام المجالسين , وخلا من ثقل المؤانسين , خفيف الوطأة إذا ادنيته , سريع الوثبة إذا امرته
قال : ومن ذلك , قلت : ماني الموسوس . قال : أحسنت والله ! فما كان بأسرع من أن أقتنصه صاحب الشرطة ؛ فصار به الى الأمير , فإخذ ونظف وأدخل الحمام , وألبس ثياباً نظافاً , وأدخل عليه , فقال : السلام عليك أيها الأمير , فقال : محمد : وعليك السلام يا ماني . أما آن لك ان تزورنا على حين توقان منا إليك , ومنازعة قلوب منا نحوك ؟ فقال : الشوق شديد , والحب عتيد , والمزار بعيد , والحجاب صعب , والبواب فظ , ولو سهّل لنا في الإذن لسهلت علينا الزيارة ! فقال : ألطَفتَ في الاستئذان , فيليلطف لك في الإذن ؛ لا يمنع ماني أي وقت ورد من ليل أو نهار
ثم أذن في الجلوس فجلس , ودعا بالطعام فأكل , ثم غسل يديه , وأخذ مجلسه . وكان محمد قد تشوق إلى السماع من مؤنسة جارية بنت المهدي فأحضرت , فكان أول ما غنت به :
ولست بناس - إذ غدوا فتحملوا - *** دموعي على الخدين من شدة الوجد
وقولي وقد زالت بليل حمولـــــهم *** بواكر تُحدي : لا يكن آخر العهـد
فقال ماني : أحسنتِ ! وبحق الأمير إلا ما زدت فيه :
وقمت أناجي الفكر والدمع حائر *** بمقلة موقوف على ا لصبر والجهدِ
ولم يعدني هذا الأمير بعدلـــــــه *** على ظالم قد لج في الهجر والصَّدِ
فاندفعت تغنيه , فقال له محمد : أعاشق أنت ؟ فاستحيا , وغمزه ابن طالوت ألَّا يبوح له بشيء فيسقط من عينيه , وقال : مبلغ طرب وشوق كان كامناً فظهر ؛ وهل بعد الشيب صبوة !
ثم اقترح على مؤنس’ هذا الصوت :
حجَّبوها عن الرياح لأنــــــــي *** قلت : لرياح بلِّغيها السلاما
لو رضوا بالحجاب هان ولكن *** منعوها عن الرياح الكلامـا
فغنته ؛ فطرب محمد , ودعا برطل فشرب , فقال ماني : ما على قائل هذا الشعر لو زاد فيه :
فتنفّستُ , ثم قلت لطيفـي : *** آه إن زُرتَ طيفها إلماما
خُصّه بالسلام مني فأخشى *** يمنعوها لشقوتي أن تناما
لكان أثقب لزنده الصبابة بين الأحشاء , وأشد تغلغلاً إلى الكبد الصادية من زلال الماء , مع حسن تأليف نظمه , والانتهاء بالمعنى إلى نهاية تمامه ؛ فقال محمد : أحسنتِ ! ثم أمر مؤنسة بإلحاقهما بالبيتين الأولين , والغناء بهما , ففعلت . ثم غنت بهذين البيتين :
يا خليليّ ساعة لا تريما *** وعلى ذي صبابة فأقيما
ما مررنا بدار زينت إلَّا *** هَتَك الدمع سرنا المكتوما
فاستحسنه محمد , فقال ماني : لولا رهبة التَّعدي لأضفت إلى هذين البيتين بيبتين لا يردان على سمع ذي لب فيصدران إلا عن استحسانٍ لهما , فقال محمد : يا ماني : الرغبة في حسن من تأتي به حائلةٌ دون كل رهبة , فهات ما عندك ! فقال :
ظبية كالهلال لو تلحظ الصخـ *** ـر بطرفٍ لغادَرتْهُ هشيما
وإذا تبسَّمَتْ خِلْتَ إيمـــــــــــا *** ضَ بُروقٍ أو لؤلؤاً منظوما
فقال أحسنت يا ماني ! فأجز هذا الشعر
لم تطلب اللذات إلا بمــــن *** طابت بها اللذات مأنوســـــة
غنت بصوت أطلقت عَبرةً *** كانت بسجن الصبر محبوسة
فقال ماني :
وكيف صبر النفس عن غادة *** أظلها إن قلت طاووسة !
وجُرت إن شبهتها بانــــــــةً *** في جنة الفردوس مغروسة
وغيرُ عدل إن عدَلْنا بــــها *** جوهرةً في البحر مغموسة
ثم سكت , فقال محمد : ما عدا في وصفه لها , فقال ماني :
جلَّت عن الوصف فما فكرة *** تُلحِقها بالنعت محسوسة
فقال محمد : أحسنت ! فقالت مؤنسة : وجب شكرك يا ماني . فساعدك الدهر , وعطف عليك إلفك , وقارنك سرورك , وفارقك محذورك , والله يديم لنا ذلك ببقاء من به اجتمع شملنا , فقال لها ماني - عند قولها : " وعطف عليك إلفك "- مجيباً
ليس لي إلفٌ فيعطفني *** فارقت نفسي الاباطيل
أنا موصول بنعمة من *** حَبلُه بالمجد موصـول
أنا مغبوط بنعمة مــن *** طبعه بالمجد مأمــــول
فأومأ إليه ابن طالوت بالقيام فنهض , وهو يقول :
ملك قلَّ النظير لـــه *** زانه الغُرّ البهالــــــــيل
طاهريُّ في مواكبه *** عُرفُه في الناس مبذول
فقال محمد : وجب جزاؤك لشكرك على غير نعمة سبقت , ثم أقبل على ابن طالوت , فقال : ليست خساسة المرء , ولا اتضاع دهره , ولا نُبُوّ العين عن الظاهر بمُذهبٍ ما ركب فيه الأدب , وما أخطأ صالح بن عبدالقدوس حين يقول :
لا يعجبنك من يصون ثيابه *** خوف الغبار وعرضه مبذول
فلربما افتقر الفتى فرأيتـــه *** دنس الثياب وعرضه مغسول
فلم يزل محمد مجرياً عليه رزقه حتى توفي
***