بدايات العلاج الجيني :
أول تجربة وفق عليها للعلاج الجيني البشري كانت قد أجريت في الولايات المتحدة في 22 مايو/أيّار عام 1989م، في محاولة لعلاج السرطان. وكان لهذه التجربة هدفاً رئيسياً وهو البرهنة على أن الجين الخارجي المنشأ يمكن أن ينقل بصورة مأمونة إلى جينوم المريض، غير أن النتائج الأولية لهذه التجربة لم تكن مشجعة. وفي سبتمبر (أيلول) عام 1990 أنجز "أندرسون" وفريقه أول تجربة ناجحة للعلاج الجيني بموافقة فيدرالية، على طفلة عمرها أربع سنوات كانت أول مريض أجريت عليه تجربة من هذا القبيل. وكانت هذه الطفلة تعاني من نوع من متلازمة نقص المناعة الوراثية يسمى العوز المناعي المشترك الشديد (SCID). وينتج هذا المرض من وراثة جين معتل من الوالدين معا. ومنذ تلك الفترة توالت المحاولات والوسائل المختلفة للعلاج بالجينات من فشل إلى نجاح حتى الآن.
أنواع العلاج الجيني :
يقسم العلاج الجيني بناءاً على الخلايا المستهدفة إلى قسمين:
النوع الأول هو العلاج الجيني للخلايا الجسدية (Somatic Gene Therapy) أي إصلاح أي خلل جيني على مستوى جميع خلايا الجسم للشخص المريض فقط ما عدا الخلايا الجنسية (النطفة المنوية في الذكر والبويضة في الأنثى) وكذلك البويضة الملقحة (الزيجوت Zygote).
والنوع الثاني: هو العلاج الجيني على مستوى الخلايا الجنسية (Germline Gene Therapy) حيث يتم علاج بويضة الأنثى أو الحيوان المنوي للذكر أو البويضة الملقحة (الزيحوت) في مراحل النمو الأولى وقبل أن تتمايز إلى خلايا متخصصة. وتختلف الطريقتان في التابعيات المترتبة بعد العلاج، فالعلاج الجيني للخلايا الجنسية والزيجوت ينتج عنه تغييراً دائماً في النمط الجيني من المريض المعالج إلى الذرية.
وسائل العلاج الجيني (طرق إيصال الجين السليم إلى الخلايا المريضة المستهدفة) :
من أهم المشاكل التقنية التي تواجه العلاج الجيني وتعوق نجاحه هو كيفية إيصال الجين السليم إلى الخلايا المستهدفة وأن يصل بأعداد كافية وإلى عدد كاف من الخلايا المريضة، وكذلك يكون الجين الجديد المنزرع في حالة استقرار ولا يتحطم وكذلك يتمكن من التعبير عن نفسه أي ينتج بروتينا يستطيع أن يقوم بأداء وظيفته الطبيعيةً. ولتحقيق كل ذلك كان لابد من وجود حامل لهذه الجينات يمكنه من تحقيق الأهداف المذكورة، والناقل (Vehicle or Vector) الذي له الخاصية الطبيعية في دخول الخلايا هو الفيروس (virus) !!، لا تتعجب أيها القارئ ... هناك علاج يتم باستخدام الفيروسات ، نعم فالفيروسات تعتبر من أفضل الناقلات الحيوية (Biological vectors) والنوع المستخدم منها هو الفيروسات التراجعية (Retroviruses) لما لهذه الفيروسات من خاصية الوصول إلى خلايا الجسم والإدراج (Insertion) في كروموسومات الإنسان فتصبح بذلك جزءاً من جينات الشخص المعالج بها. والحمض النووي (أي المادة الوراثية) لهذه الفيروسات هو ''''''''''''''''''''''''''''''''RNA'''''''''''''''''''''''''''''''' بدلاً من ''''''''''''''''''''''''''''''''DNA'''''''''''''''''''''''''''''''' وعندما تدخل هذه الفيروسات الخلايا يتحول ''''''''''''''''''''''''''''''''RNA'''''''''''''''''''''''''''''''' إلى ''''''''''''''''''''''''''''''''DNA'''''''''''''''''''''''''''''''' ويغرس في ''''''''''''''''''''''''''''''''DNA'''''''''''''''''''''''''''''''' للشخص المستقبل ويصبح جزءاً من تكوينه الوراثي الطبيعي، وبالطبع عندما ندخل هذه الفيروسات الحاملة للجين المراد إدخاله كان لا يمكن أن يتم ذلك قبل أن يتم شلها أو تعطيلها لتصبح عاجزة عن أن تسبب أي مرض أو تقتل الخلايا المستقبلة، ويتم ذلك عن طريق تقنيات الهندسة الوراثية حيث يزال من الفيروس جيناته الممرضة، وبذلك لا يتمكن الفيروس الذي أُدخل إلى خلايا الإنسان من أن يعيد إنتاج فيروس متكامل وناضج ولكن يظل يحمل هذا الفيروس الجين الذي يساعد على غرسه في كروموسوم الخلية المستقبلة المعطوبة ، وبالتالي تمكن العلماء من إيصال الجين السليم محمولاً على فيروس معطل.
ويلعب الجهاز العبقري الصنع PCR والمخترع حديثاً (على يد العالم Kary Mullis والحاصل به على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1983م) دوراً رائعا في تصنيع ونسخ الجينات السليمة المراد إكثارها بأعداد تصل إلى مئات الملايين من النسخ، حيث يوضع بداخل الجهاز تسلسل DNA للجين المطلوب إعداده للزرع بجانب العناصر الأساسية المكونة له من التتابعات (Nucleotides) الممثلة بالأنواع الأربعة الأساسية التي يرمز لها بالحروف (A-T-C-G)، وذلك تحت ظروف معينة لإتمام التفاعل، فيتم بذلك إنجاز التفاعل المطلوب بسرعة مذهلة من إكثار الجين السليم والمطلوب زراعته بداخل العضو المعطوب بأعداد تسمح له بالعلاج. كما أن هناك استخدامات علمية شتى ومتنوعة لاستخدامات جهاز PCR سواء من ناحية الطب الشرعي، أو تعين البصمة الوراثية (Genetic Fingerprinting)، وأيضا في تحاليل إثبات الأبوة (Paternity Tests) ، أو التأكد من الإصابة ببعض الأمراض الفيروسية (مثل ''''''''''''''''''''''''''''''''أمراض الإيدز ''''''''''''''''''''''''''''''''AIDS والالتهابات الكبدية Hepatitis-B, -C)، وغير ذلك من البروتوكولات الطبية المفيدة للبشرية، كل ذلك يتم في خلال ساعتين من تشغيل جهاز الـ PCR وأنت تحتسي القهوة، وسبحان الله العظيم {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} العلق- 5.
استخدامات العلاج الجيني في علاج الأمراض الخطيرة :
يوجد الآن محاولات عديدة للعلاج الجيني خارج الجسم لأمراض تؤثر على خلايا الدم مثل الثلاسيميا (Thalassemia) ومرض فقر الدم المنجلي (Sickle cell anemia) ومرض سرطان الدم (Leukemia) ، ومرض الهيموفيليا (Haemophilia). وتستخدم طريقة العلاج الجيني خارج الجسم لأمراض أخرى خلاف أمراض الدم حيث تستخدم لعلاج الأمراض الأيضية (Inborn error of Metabolism) والتي غالباً ما تنتج عن نقص أنظمة وظيفية معينة بالجسم نتيجة لخلل في جين هذا النظام، ويتم أيضاً في هذه الطريقة إضافة الجين السليم المحمول على ناقلة إلى خلايا النخاع خارج الجسم ومن ثم تعاد إلى المريض، وقد تم ذلك لمعالجة مرضى تراكم الفنيل كيتون البولي (Phenyl Ketonuria). أما العلاج الجيني داخل الجسم فإنه يتم للأمراض التي يصعب الحصول على خلاياها أو التي لا تنقسم كثيراً أو التي ليس لها خلايا جذعية (Stem Cells) ، حيث يتم إيصال الجين السليم والمحمول مباشرة إلى الأنسجة المتأثرة، ومثال ذلك علاج مرضى تليف الرئة الكيسي (Lung Cystic Fibrosis) ومرض الخلل العضلي (Muscular dystrophy).
يوجد الآن في العالم عدد كبير من الطرق (Protocols) المعتمدة في العلاج الجيني منها حوالي 135 في الولايات المتحدة الأمريكية و 60في أوروبا وواحد في الصين وآخر في اليابان. وبما أن عملية الموافقة على هذه البروتوكولات ليست معلنة بنفس القدر خارج الولايات المتحدة، فمن الصعب الحصول على العدد الدقيق للبروتوكولات في العالم. ومعظم هذه البرامج تركز على علاج مرضى السرطان ونقص المناعة المكتسب (AIDS) وهناك 11 برنامجاً لعلاج 9 أمراض وراثية وثلاث برامج لعلاج أمراض الأوعية الدموية الطرفية (Peripheral Vascular Diseases) ، وعلاج الداء السكري أو مرض السكر (Diabetes)، والتهاب المفاصل الرماتويدي (Rheumatoid Arthritis)، و التضييق الشرياني (Restenosis Arterial) ، وبعض الأمراض العصبية مثل داء الزهايمر (Alzheimer) ومتلازمة باركينسون (Parkinson) وغيرهم.
محاذير العلاج الجيني (قضايا طبية واجتماعية وأخلاقية حول العلاج الجيني) :
من أهم ما يشغل العلماء على ضوء ما سبق ذكره هو إمكانية أن يكون لهذا العلاج الجيني آثار غير متوقعة ولا يحمد عقباها وأحد هذه المخاوف هو إمكانية أن يغرس الجين الجديد في المكان الخطأ أو في تسلسل جين سليم فيتسبب في إيقافه وتعطيله عن العمل، ومن أخطر المحاذير أيضا هو أن يغرس الجين المحمول في الجين المثبط للسرطان (Tumor Suppressor Gene) ويوقفه عن العمل وبذلك تنطلق الخلايا من عقالها وتنمو نمواً سرطانياً، أو أن يتسبب هذا الغرس الخاطئ في تنشيط طليعة الجين المورم الذي يكون على حالة غير نشطة (Proto-oncogene) ويحوله إلى جين مورم (Oncogene)، إلى جانب ذلك فإن إمكانية وصول الجين المنقول إلى الخلايا التناسلية مسبباً بذلك تغييرات أمر قائم مما يترتب عليه انعكاسات أخلاقية واجتماعية غير متوقعة.
وعندما يتم تطوير تقنيات جديدة وفعالة خاصة في المجالات التي تتناول الصحة فإنها دائماً تواجه بقضايا ومحاذير من المجتمع وهذا شيء طبيعي لتطوير المعايير المناسبة لاستخدام هذه التقنيات. ومن إحدى هذه المشاكل التي تواجه المجتمع الآن في استخدام العلاج الجيني (على مستوى الخلايا التناسلية) هي احتمال أن ينتج عن هذا العلاج تغير جيني للخلايا التناسلية للنطفة المنوية أو البويضة، ومن ثم انتقال هذا التغير إلى الأجيال القادمة، وبالتالي فإن التغير الجيني سوف يعني تغيير النمط الجيني للإنسان إلى الأبد ومع الافتراض أنه إلى الأفضل ولكن أي خطأ أو وقوع ما ليس في الحسبان ستكون نتائجه وخيمة، مما جعل هذا العلاج يتم التعامل معه بحذر شديد في كثير من دول العالم.
ومع ظهور التعريف والتسلسل الكامل للجينوم البشري وما قد ينشأ من مشاكل على المستويات المتعددة من الأفراد والأسرة والمجتمع فقد أنشأت الكثير من الدول المتقدمة لجان على مستوى علمي رفيع للتعامل مع المشاكل الاجتماعية والأخلاقية والقانونية لهذه المعلومات، والتي من مهامها التعرف على المشاكل الناجمة وتحليلها والتعامل معها حين ظهورها ووضع الحلول قبل أن تصبح هذه الأبحاث أو العلاجات الجينية موضع التطبيق. وها
نحن في انتظار الوعود الحالمة لهذا الأسلوب المتقدم من العلاج، ولكن هل ستبقى شعوبنا العربية في مقعد المشاهد أم المشارك بفاعلية.....هذا ما سنراه في المستقبل القريب إن شاء الله.
.
أعد هذا المقال.........،
د./ محمد أحمد إسماعيل
<تخصص البيولوجيا الجزيئية – بجامعة عين شمس- القاهرة>