الحمد لله الخالق البارئ المصور العزيز العلي المتكبر , الجبار الذي كل جبار له ذليل خاضع , وكل متكبر في جناب عزه مسكين متواضع , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القهار الذي لا يدفعه عن مراده دافع , الغني الذي ليس له شريك في الملك ولا منازع , وأشهد أن محمد رسول الله بعثه الله لأهل الهدى نجم ساطع , وعلى أهل الفجور والخنا سيف قاطع صلى الله عليه وسلم ما سجد لله ساجد أو ركع لله راكع
أوصيكم عباد الله بوصية الله للأولين والآخرين إذ يقول تعالى :
{{ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا }}
عباد الله خُلُقٌ يزينه الشيطان لضعفاء ومرضى النفوس فينفخ فيهم حتى ينتفخ أحدهم ويرتفع كالبالون ؛ فتتلاعب بهم الأهواء ويكونون عرضة للسقوط والتلاشي في أي لحظة , هذا الخُلُق هو خلق الكبر والذي عرفه لنا خير البرية صلوات الله وسلامه عليه بقوله (( الكبر بطر الحق وغمط الناس )) فالمتكبر يرد الحق مهما كان مصدره ويرى نفسه أنه هو الأعلى ولا شيء يعلوه فينظر لكل الناس نظرة احتقار وازدراء ؛ وإمام المتكبرين وقدوتهم في ذلك عدو البشرية جمعاء إبليس أعاذنا الله وإياكم من شره ومكره حيث رد الحق حين جاءه من رب العالمين ورأى نفسه أنه الأفضل وقال قولته التي ملؤها التكبر والعفن قال تعالى :
{{ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ }}
وتبع إبليس في نهجه طائفة من البشر قص الله علينا حكايتهم فمنهم من تكبر على الله كفرعون قال تعالى {{أنا ربكم الأعلى }} والنمرود يوم ان قال : قال الله تعالى : {{ أنا أحيي وأميت }} ( سورة البقرة ) , وكفار قريش يوم أمروا بالسجود فقالوا : قال الله تعالى
{{ وما الرحمان أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا }} ( سورة الفرقان ) .
وتكبر قوم على رسل الله فقال قوم فرعون : قال تعالى
{{ أنؤمن لبشر مثلنا وقومهما لنا عابدون }} ( سورة المؤمنون ) ,
وقال كفار قريش : قال تعالى
{{ لولا نُزِّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم }} ( سورة الزخرف )
وتكبر أقوام على خلق الله فكان مصير الجميع الهلاك والبوار .
الكبر عباد الله مهلكة وأي مهلكة فالمتكبر يصرف العزيز الجبار عن تدبر آياته يقول تعالى :
{{ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ }} ( سورة الأعراف )
يختم القدير على قلبه فلا يميز بين الحق والباطل يقول الله جل جلاله :
{{ كذلك يطبع على كل قلب متكبر جبار }} ( غافر )
المتكبر يا عباد الله ارتكب ذنباً عظيماً فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
(( يقول الله تعالى الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحداً منها ألقيته في جهنم ولا أبالي ))
إن الكبر ياعباد الله أمره خطير فيكفي المرء أن يكون في قلبه مثقال ذرة من كبر ليحرم الجنة ونعيمها فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
(( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر )) ( رواه مسلم )
المتكبرون هم أول من تبحث النار عنهم يوم القيامة أخرج الترمذي عن ابي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( يخرج من النار عنق له أذنان تسمعان , وعينان تبصران , ولسان ينطق , يقول : وكلت بثلاثة . بكل جبار عنيد , وبكل من دعا مع الله إله آخر , وبالمصورين ))
المتكبرون يا أمة الهدى هم من حطب جهنم ووقودها فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
(( احتجت الجنة والنار , فقالت النار فيَّ الجبارون والمتكبرون )) ( رواه مسلم )
ويوم الحشر يفضح الناس كل بما كان يعمل في الدنيا وممن يفضح في ذلك اليوم الرهيب المتكبرون يقول صلى الله عليه وسلم :
(( يحشر المتكبرون على أمثال الدّرّ ( أي النمل ) في صورة الرجال يغشاهم الدّل من كل مكان يساقون إلى سجن في جهنم يقال له بولس , تعلوهم نار الأنيار يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال )) ( رواه النسائي والترمذي )
والكبر يا عباد الله إحساس بالعظمة في النفس ينعكس في صورة تصرفات المتكبر فإما أن يكون اختيال في المشية أو إعجاب بالرأي حيث يرد كل رأي مخالف ولو كان حقاً أو استبداد في المنصب وازدراء للآخرين , ومن الصور التي تدلك على المتكبر أنه يكثر الطعن في الناس إما في هيئاتهم أو في فقرهم أو في عملهم أو في عقيدتهم لأنه يريد أن يقول للناس إني أنا الوحيد الكامل وإن كل من حولي من الناس ناقصين .
وأخطر أنواع الكبر من يتكبر على شريعة الله فتأتيه بالآية والحديث الدالة على خطأ ما هو فيه فيقول لا أستطيع الحياد عما أنا فيه وقد يتحجج بالظروف وتغير الزمان وغيرها , وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يأكل بشماله فقال كل بيمينك فقال لا أستطيع , فقال له صلى الله عليه وسلم لا استطعت ما منعه إلا الكبر فشلت يمين الرجل , فهلا انتهى أقوام عن الكبر على شريعة الله من قبل أن تحل بهم عقوبة من العزيز الجبار ؟
وأشد ما يفتك الكبر بالأسر حينما يتكبر الزوج على زوجته وأولاده فيستبدهم , أو حينما تتكبر الزوجة على زوجها على أنها الأجمل أو الأكثر مالاً أو نحو ذلك من امور الدنيا .
وتشتد المرار حينما يتعب الأب أو الأم في تعليم أبنه أو أبنته ثم يتكبر فيرى نفسه أنه عالم وهم جهال وكم من جاهل أهلكه من حوله حيث قدموه على أنه العالم المبجل فقبلوا رأسه بمناسبة وبغير مناسبه وإذا مشى مشوا من خلفه تبعاً له وإذا تحدث كأن على رؤسهم الطير وأعتقدوا في أن رأيه لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه , فإذا طعن في رجل اعتقدوا النقص فيمن طعن فيه بغير أن يطلبوا الدليل والبينة , وإذا تصرف تصرفاً ولو خطئاً اعتبروه صواباً لأنهم ادعوا أو كادوا أن يدعوا له العصمة , والمسكين ظن بنفسه تلك الصفات فانتفش وانتفخ حتى كاد أن يقول ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد وما علم أنه هلك وأن أول من جنى عليه أتباعه , فإذا رأيت من يظنه الناس من العلماء يغضب إذا لم يقف له الناس ولم يقبلوا رأسه ويحلموا نعله فاغسل يدك منه وكبر عليه أربعاً فإن العالم الحقيقي يزيده علمه تواضعاً , وهذا الأمر نجده على كافة المستويات وفي مختلف الشرائح الاجتماعية , فالنفاق الإداري للمدير والمسئول هو مما يهلك ذلك المسئول إن لم يكن من أهل البصيرة , ونفاق الطلاب للمدرسين يهلك ضعفاء النفوس منهم وقس على ذلك .
وإذا نظرنا يا عباد الله إلى طائفة المتكبرين فنجد أن كلاً منهم قد تكبر بنعمة من نعم الله أتاه الله إياها فمنهم من تكبر لسعة في المال وآخر لمنصب وجاه وثالث لكثرة علم أو كثرة عبادة ونحو ذلك , لكن هناك طائفة أشد عذاباً وأشد مقتاً وهي طائفة لم تؤتى ما أسباب الكبر شيء ومع ذلك تأبى نفوسهم المريضة إلا الكبر وهذه الطائفة ويقول عنها صلى الله عليه وسلم
(( ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم وذكر منهم وعائل ( أي فقير ) مستكبر ))
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
{{ قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها مثوى المتكبرين }} ( الزمر)